Page 24 - كتاب تأبين حسنين ربيع
P. 24

‫بيت المقد ‪ ،‬وقد وقعت فى منبسط ارتفع ‪997‬م عن سطح البحر فوق جبال الخليل‪ ،‬وهى منطقة‬
‫عرفت بكثرة ينابيعها‪ ،‬إذ بلغت ما زاد على عشرين نبعا أشهرها عين الذروة‪ ،‬وعين الحسا‪ ،‬وعين‬
‫مرج السورإ‪9‬ر ولا مراء فى أن مثل تلك المنطقة الغنية بمواردها المائية والزراعية‪ ،‬لم تغب عن‬
‫أيماع الغزاة الذين كانوا يلهثون وراء الأر والمياه‪ ،‬كجزء من سياسة سلب ونهب موارد البلاد‬

                                                                          ‫من أبنائها الأصليين‪.‬‬
‫وقد أقام الحلحولى فى بلدته‪ ،‬وأقام بها مسجداإ‪10‬ر‪ ،‬وذلك فى ظل خضوعها للصليبيين‪ ،‬حيث‬
‫ذكر الذهبى ما نصهو "يبنى بها مسجدا وتعبد فيه بين الافرنج"إ‪11‬ر‪ .‬بل الملفت للانتباه ارتفاع شأن‬
‫تقواه وورعه‪ ،‬حتى أن الصليبيين أنفسهم كانوا يتبركون به ويعتقدون فيهإ‪12‬ر‪ ،‬وذلك يعكس لنا حجم‬
‫التأثير الذى تركه الزهاد المسلمون على قلوب حتى أعدائهم الذين كانوا فى بلادهم الأوروبية‬

                                                                           ‫يتبركون بقديسيهم‪.‬‬
‫ومن المفتر – منطقيا‪ -‬تزايد شعبيته لدى المسلمين الخاضعين للإحتلال الصليبى‪ ،‬خاصة‬
‫أنهم كانوا فى أمس الحاجة للالتفاف حول "رمز" ما من أجل أن يعينهم على الصمود فى وجه الغزاة‬

             ‫الذين جعلوهم فى منزلة اجتماعية ودينية مقارنة بسواهم بين يبقات المجتمع الصليبى‪.‬‬
‫ويلاح أن أوضاع المسلمين الخاضعين للاحتلال الصليبىإ‪13‬ر‪ ،‬لا تزال تحتاج إلى دراسة‪،‬‬
‫خاصة أنهم قاوموا الصليبيين عسكريا؛ ويريل يافا‪-‬القد إ‪14‬ر إ‪ 63‬كمر الجبلى الوعر‪ ،‬خير برهان‬

                                   ‫ودليل كما أفضت عن ذلك مؤلفات الرحالة الأوروبيين أنفسهم‪.‬‬
‫وهكذا؛ فنحن أمام متصوف عامل متفاعل مع الواقع المأساوى للمسلمين‪ ،‬الذى نتج عن‬
‫الاحتلال الصليبى‪ ،‬وقد ترك فلسطين‪ ،‬ولا تحدد لنا المصادر متى حدث ذلك؛ وارتحل إلى‬
‫مصرإ‪15‬ر‪ ،‬ودل ذلك على ظاهرة "الشامصر"‪ ،‬وهى تلك الرابطة الجغرافية والتاريخية الضاربة‬
‫بجذورها بين بلاد الشام ومصر‪ ،‬خاصة أن أر الكنانة قدم إليها الكثيرون من أهل فلسطين الذين‬

                                                                  ‫ه ّجرهم الغزو الصليبى الآثم‪.‬‬
‫قم نراه من بعد ذلك اتجه إلى دمشل وارتفعت مكانته لدى الدماشقة‪ ،‬على نحو جعل مؤرخها‬
‫الكبير ابن عساكر‪ ،‬يصفه بأنه كان من كبار الصالحين والعباد"إ‪15‬ر‪ ،‬بل زاد فى قوله بأنه التقى به‬
‫عدة مرات‪ ،‬وانتفع بعلمه‪ ،‬بل أق ّر صراحةو "ما رأيت بالشام فى فنه"إ‪16‬ر‪ ،‬وهى شهادة صادرة عن‬
‫مؤرخ قدير خبير بأقدار الرجال‪ ،‬فإذا ما أدركنا أن ابن عساكر تلقى العلم على أيدى نحو إ‪1282‬ر‬
‫شيخا وشيخة‪ ،‬إلى درجة أنه أل كتابا فى الشيوخ الذين علموه‪ ،‬أدركنا عندئذ قيمة وصفة الحلحولى‬

                                                                               ‫بذلك الوص ‪.‬‬
‫والواقع؛ أننا لا نفهم انتقال الحلحولى من حلحول إلى مصر‪ ،‬ثم إلى دمشل‪ ،‬إلا من خلال‬
‫حركة النزوم التى قام بها أبناء فلسطينإ‪17‬ر الذين تعرضوا للغزو الصليبى‪ ،‬أو ما أيلل عليه‬

                                                       ‫"الجفل" عندما واجهوا المذابح الصليبية‪.‬‬
‫وهكذا ندرك أن الفندلاوى كان فقيها‪ ،‬أما الحلحولى فكان متصوفا‪ ،‬ولا نعرف أمام صمت‬
‫المصادر التاريخية‪ -‬متى التقى الاثنان معا‪ ،‬غير أنه من المفتر أن صداقة ما نشأت بينهما‪،‬‬
‫وجمعهما الكثير من عوامل الارتباي؛ إذ أن حركة الجهاد فى الغرب الإسلامي‪ ،‬واشتداد ساعة‬
‫الاسترداد الأسبانية فى الأندلس ‪ Reconquesto‬والتى كان المغرب على مرأى ومسمع منها‪ ،‬ثم‬
‫الرحلة الشامية من الحروب الصليبية كما أدركها الفقيه المسلمى إت ‪1107‬مر فى رسالته عن‬
‫الجهادإ‪18‬ر‪ ،‬والتى كان يترددصداها فى دمشل‪ ،‬لا ريب فى أن ذلك وحد الرجلين أمام خطر داهم‬

                                                   ‫مشترك واجه المغرب والمشرق الإسلاميين‪.‬‬
‫كما اتفقا فى أمر الرحلة‪ ،‬وإن كانت رحلة الفندلاوى كانت أيول بمقيا الجغرافيا من‬
‫المغرب إلى بلاد الشام؛ أما الحلحولى فرحلته أقصر لتنقّله بين مصر ودمشل‪ ،‬كذلك اتفقا فى الرحلة‬
‫العمرية‪ ،‬إذ يفهم من السيـاق العام للأحداث أنهما فى عام ‪1148‬م‪ ،‬كانا متقدمين فى العمرإ‪19‬ر دون‬
‫إمكانية تحديد ذلك؛ ومن المفتر ‪ -‬دون التأكد‪ -‬أنهما تجاوزا الستين عاما‪ ،‬وهو أمر يدعونا إلى‬

                                             ‫إمكانية إفتراضه حوار القيادة الإسلامية مع أحدهما‪.‬‬
‫ومع العوامل المشتركة المذكورة نلاح فارقا من خلال أن الحلحولى كان‪ -‬على الأرجح‪-‬‬
‫أكثر شعبية‪ ،‬حيث كانت كرامات المتصوفة تجذب حشودا كبيرة‪ -‬خاصة فى عصر الحروب‬

         ‫الصليبية‪ -‬فتحولوا إلى قيادات شعبية روحية لا يمكن تجاهل تأثيرهم فى توجيه الرأى العام‪.‬‬
‫على أية حال؛ كان لفتح الرها عام ‪1144‬م أثره الكبير على الغرب الأوروبى‪ ،‬حيث تأثر‬
‫المل الدفاعى الإستراتيجى بين الكيان الصليبى فى شرقى البحر المتوسط ‪ Levant‬والوين الأم‬
‫الذى أفرز الظاهرة الصليبية فى الغرب الأوروبى‪ ،‬ومن ثم قامت ما أيلل عليه الباحثون الحملة‬
‫الصليبية الثانيةإ‪20‬ر إ‪1149 -1147‬مر مع ملاحظة أن المشروع الصليبى ك ّل لا يتجزأ‪ ،‬وأن الرقمية‬

                                      ‫‪23‬‬
   19   20   21   22   23   24   25   26   27   28   29