ملخص كتاب ” العدوان الفكري الرومي البيزنطي على الإسلام.
تأليف. أ. د / علي بن محمد عودة الغامدي.
قمة الطغيان الفكري الرومي ضد الإسلام.
بلغ البغي والطغيان الفكري الرومي ( البيزنطي ) ضد الإسلام وعقيدته ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم قمة الحقد والبهتان في اواخر القرن السادس الهجري /الثاني عشر الميلادي ، عندما كتب الرهبان والأساقفة الروم لعناً في كل مخطوطات كتب التعليم الديني للأطفال ، وينص هذا اللعن الباغي المقيت على لعن رب محمد ( عليه الصلاة والسلام ) ” الذي يصفه بانه الواحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد”.
والهدف من هذا اللعن المقيت الباغي ، أن ينشأ الأطفال الروم وهم مُشَبَّعون بكراهية الإسلام ونبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم ، وبالتالي لا يستمعون لأي شيء من مبادئ الإسلام وشرائعه ، وحتى يستبسلون في مقاتلة جيوش المسلمين ، خلال القتال شبه الدائم مع المسلمين على الحدود ، فضلاً عن التصدي لحملات الصوائف والشواتي التي درج المسلمون على القيام بها طوال عدة قرون ، إضافة إلى مواجهة فتوح السلاجقة المسلمين الذين انتزعوا من دولة الروم أبهى وأعز أقاليمها المتمثل في الأناضول ( آسيا الصغرى ).
ولم يكن هذا البغي والطغيان الفكري البيزنطي ” الرومي ” إلا نتيجة تراكم الكتابات المسيئة والمسمومة ضد الإسلام وضد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي تراكمت في التراث البيزنطي الرومي خلال القرون السابقة منذ فتح المسلمون بلاد الشام وحتى القرن السادس الهجري. وكانت تلك الكتابات بسبب العجز الرومي العسكري عن مواجهة المسلمين في ميدان مكشوف ، وخوفاً من ان تبدأ جماهير الروم عن التساؤل عن العقيدة والمبادئ التي يعتنقها أولئك القوم الذين هزموا جيوشهم وانتزعوا منهم أبهى وأغلى بلادهم ، وبالتالي يتأثرون بعقائدهم فيدخلون في دين الله أفواجاً.
فكان لابد لأولئك الكتاب من الرهبان وغيرهم من بناء حائط صد فكري أمام عقيدة الإسلام ، لتحصين قومهم من اعتناق الإسلام ، فكان أن بنوا ذلك الحائط -الحاجب لنور الحق – من لبنات كلها من الكذب والتحريف والإفتراء.
فما كتبه : صفرونيوس ، اسقف القدس ، في مواعظه ، وما قدّمه يوحنا الدمشقي في فصله عن الإسلام ، ومكسيموس المعترف ، وجرمانوس ، وثيوفانس ، والامبراطور قسطنطين السابع بورفيروجينتوس ، والأرمني غيفوند ، والأميرة البيزنطية أنَّا كومنين وغيرهم من الكُتَّاب ، مهَّد السبيل لهذا الحقد والكره واللعن المقيت الذي قل نظيره في تاريخ المواجهات بين الأمم عبر عصور التاريخ.
ويجب أن يدرك المسلمون أن هذا الموروث البيزنطي البشع الباغي تجاه الإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم لم يندثر بفتح القسطنطينية وسقوط امبراطورية الروم ( الدولة البيزنطية ) بأيدي المسلمين سنة ٨٥٧ هجرية / الموافق لسنة ١٤٥٣م ، بل لا يزال باقياً إلى اليوم ، فاصبح من أهم الروافد التي يستقي منها عتاة رجال الدين في الغرب رؤيتهم للإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى رأسهم قادة المحافظين الجدد في أمريكا وبخاصة رجال الدين واليمين المتطرف في الغرب مثل : جيري فالوليل ، وبات روبرتسون ، وفرانكلين جراهام ، وجيري فاينز ، وتيري جونز ، وفلين
.. وغيرهم. فما تلفظوا به في مقابلاتهم التلفزيونية والصحفية وكل ماكتبوه عن الإسلام. منحول من هذه الكتابات البيزنطية السابقة ، ونجد أحياناً حتى العبارات متطابقة بين ذلك التراث القذر وما قاله هؤلاء الحاقدون عن الإسلام منذ حوادث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م وحتى اليوم.
ليس هذا فحسب بل حتى الكنيسة الكاثوليكية في روما لم تسلم من هذا البغي والطغيان ، فهى التي ترجمت هذا التراث من اللغة اليونانية إلى اللغة إلى اللغة اللاتينية ثم اللغات الأوربية الحديثة.
وأشاد كرادلة البابوية في كنيسة روما بهذا الموروث البينزنطي وبجَّلوه. ولا يزال الباحثون في الغرب يتناولون هذا التراث ويترجمونه ويدرسونه ويقدمونه للقراء في الغرب. بحيث أصبح في متناول أي باحث مغرض أو مستشرق حاقد أو صحفي جاهل يريد الكتابة عن الإسلام. وقل منهم من يرجع إلى مصادر الإسلام وتاريخه ليقدم للقراء في الغرب الصورة الناصعة والحقيقة المجردة عن الإسلام.
ووجدنا من تلاميذ المستشرق اليهودي المتعصب ، ضد الإسلام ، برنارد لويس من دعا إلى إعتماد هذا التراث لمعرفة الحقيقة الصحيحة – بزعمهم الكذوب – عن الإسلام ، واستبعاد المصادر الإسلامية بالكلية بما فيها القرآن الكريم بزعم أنها متحيزة للإسلام ولا تُقَدِّم الحقيقة. بغوا وطغوا عليهم من الله ما يستحقون.
وعلى رأس تلاميذ برنارد لويس الذين نهجوا هذا النهج المغرض : باتريشيا كرون ، ومايكل كوك. وقد صنَّفا كتاباً عن ظهور الإسلام بعنوان : ( الهاجريون ، دراسة في المرحلة التكوينية للإسلام ) واعتمدا على هذه المصادر البيزنطية الحاقدة ، وقد ترجم كتابهما إلى العربية نصيري مغرض اسمه ، نبيل فياض.
ومهما يكن من أمر فإن نيقتاس البيزنطي – الذي عاش على الأرجح في القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي – قدِّم للروم أبشع وأعتى عدوان فكري باغي على الإسلام وعلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ويجب ألا يغيب عن أذهاننا أن جدل نيقتاس مبني على الحقد والضغينة ، وبخاصة ان دولة الروم في القرن الثالث الهجري تكبدت خسائر ثقيلة على أيدي المسلمين الذين انتزعوا منها أهم وأكبر جزيرتين تملكهما في البحر المتوسط وهما جزيرتي صقلية وكريت بالإضافة الى جزائر أخرى عديدة في خاصرة الدولة البيزنطية وتوغل المسلمون في غزواتهم في هذا القرن حتى اقتحموا سالونيك ” العاصمة الاقتصادية للروم بقيادة البطل المسلم ليو الطرابلسي” وهددوا القسطنطينية ذاتها. وسيطر المسلمون في هذا القرن على البحر المتوسط من جبال طوروس شرقاً حتى جبال الألب والبرانس غرباً.
ولهذا يمكن لنا أن نعتبر جدل نيقتاس وهذره الطاغي مجرد دعاية سفيهة ورخيصة ضد عقيدة عدو قادر ومتفوق أصبح – في نظرهم – يهدد بيزنطة بالفناء ، وهذه الدعاية الرخيصة موجهة أساساً لرعايا الدولة البيزنطية من النصارى بهدف تقوية إيمانهم بدينهم ومنعهم من التأثر بعقائد عدوهم الذي أصبح خطره على الأبواب.
ويمكن اعتبار نيقتاس المجادل البيزنطي العدواني الرئيس على الإسلام . وجدله يُمثل العمود الفقري للعدوان الفكري البيزنطي ضد الإسلام وضد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وفي جدله البائس أبدى نيقتاس من ضروب البغض والكره والحقد على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن الكريم ما لم يضارعه فيه كاتب بيزنطي آخر.
وجدل نيقتاس يتكون من قسم رئيس زعم انه ” دحض للكتاب المزور – بزعمه الباطل – من جانب موعمت Moamet – هكذا يلفظ اسم محمد صلى الله عليه وسلم – . وقد استعرض نيقتاس في جدله سور القرآن الكريم بحيث يقف عند بعض الآيات ويقدم معانيها لقرائه بصورة مشوهة ومحرفة ومغرضة بل ومقلوبة أحياناً ، ثم يحاكمها وفقاً لفهمه السقيم للكتاب المقدس عند أهل الكتاب وعلى ضوء عقيدة الثالوث الباطلة التي يعتنقها نيقتاس وقومه.
وقد كرر نيقتاس في جدله أن المسلمين ( الذين يسميهم الهاجريين ، نسبة إلى هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ) يعبدون الشيطان المرتد. وزعم – كذباً وزراً – أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك شيء من المصداقية ، وهو يهدف بهذا الزعم الكذوب أن يصرف قومه عن البحث عن سيرة نبي الإسلام ، أو الاستماع الى شيء مما جاء به.
وقد وصف القرآن – زوراً وبهتاناً – بأقبح الأوصاف مثل قوله : ” الكتاب البغيض الملفق الممتلئ بالكذب لموعمت العربي… وبقوة الروح القدس نريد أن نسقطه من أساسه ، فهذا الكتاب مخالف للمنطق إلى اقصى حد لأنه بالكامل فاسد ، ومن السهل أن يُرمى إلى الأسفل لأنه بُنِيَ على أساس رديء ، وبيت نخر بدون أي جدارة بالثقة ، وبدون سند ، وقد بُنِيَ على نحو سيء من مادة رخيصة “.
بغيٌ ما بعده بغي وطغيان ما بعده طغيان.
وهنا نراه يُقَدِّم لقرائه أوصافاً معاكسة تماماً لأوصاف القرآن التي اتصف بها.
وسوف أضرب هنا بعض الأمثلة القليلة على تشويه نيقتاس وتحريفه ، إذا لا يتسع المجال هنا – في هذا الملخص – لعرض ألأمثلة الكثيرة التي ستظهر إن شاء الله في الكتاب الذي سيُطبع قريباً بإذن الله تعالى عن العدوان الفكري البيزنطي على الإسلام.
فعلى سبيل المثال بدأ نيقتاس بالحديث عن سورة البقرة ووقف أمام الآيات السبع الاولى من السورة وهذا نصها :
ألٓمٓ (1) ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ (2) ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ (3) وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (5) إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ (6) خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ (7).
فالأيات الخمس الأولى تبين أسس الإيمان التي تمثل صفات المؤمنين الصادقين سيما أصحاب النبي صلى الله عليه من المهاجرين والأنصار. أما الآيتين التاليتين فتصف عُتاة الكفار الذين وقفوا ضد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وعقاب الله لهم في الدنيا ، وعذابه الذي ينتظرهم في الآخرة.
ويقدم نيقتاس معاني محرفة ومقلوبة ومضطربة لهذه الآيات العظيمة طبقاً لهواه وبما يخدم غرضه فيقول : ( السورة الأولى : محاولة من موعمت – يقصد النبي محمداً صلى الله عليه وسلم – ليقنع أتباعه بأن يقبلوا بالمصداقية لكتابه المقدس بدون أي تردد ، ولكي يحقق موعمت هذا يقبل الكتب المقدسة السابقة ، ثم يجعل القبول بالقرآن هو المعيار للإيمان والكفر بالله ، الذي يهدي إلى الإيمان الذين يؤمنون بهذا الكتاب المقدس ، ويحرم من الإيمان أولئك الذين لا يؤمنون به. فالله يجعل أولئك الذين يريد أن ينقذهم مطيعين ، أما الذين لايريد أن ينقذهم فيحرمهم من الحكمة وقوة السمع والنظر. لكن ذلك يصوِّر الله وكأنه غير راغب في انقاذ كل البشر ، ويصوِّره وكأنه مسرور بهلاك البشر ). وقد كرّر نيقتاس اعتراضه هذا على القرآن كثيراً في كتابه ، وهو ماسبق أن اعترض به عدد من رهبان الروم وعلى رأسهم يوحنا الدمشقي وتلميذه أبو قرة ، وكرره رهبان ظهروا في بلاد الروم وفي الغرب بعد هلاك نيقتاس البيزنطي.
والحقيقة أن الله سبحانه وتعالى ، يهدي من يشاء ويضل من يشاء. وهذه حقيقة قرآنية وردت في كثير من الآيات ، مثل قوله تعالى في آية ١٧٨ من سورة الأعراف : ( من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ). وقوله تعالى في آية ١٧ من سورة الكهف : ( من يهد الله فهو المهتد ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ).
وهذا لايعني أن القرآن الكريم يصوِّر الله جل وعلا ، وكأنه مصدر الشر الذي يُضل البشر ، مثلما زعم نقتاس وأمثاله. فالله تعالى لا يضل إنساناً إلا بعد أن يعرف ذلك الإنسان طريق الخير وطريق الشر ، ويختار بمحض إرادته طريق الشر ، عندئذ يضله الله فيسير في الطريق الذي اختاره لنفسه بمحض إرادته. والقرآن الكريم يوضِّح هذه الحقيقة بجلاء لا لبس فيه ، ويفسرها تفسراً بيِّناً واضحاً ، قال تعالى في سورة النساء ، آية ١١٥ : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّهِ ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ).
فالله جلا وعلا يُبيِّن في هذه الآية أنه يُضل من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، وعرف طريق الخير والشر ، ثم اختار بمحض إرادته طريق الشر التي هي غير طريق المؤمنين ، عند ذلك يسوقه الله جل وعلا في الطريق الذي اختاره بمحض اختياره حتى يصل إلى مصيره المحتوم في جهنم. وهذا الطريق هو الذي اختاره نيقتاس وغيره من كُتَّاب النصارى المعاندين الذين أثاروا هذا الاعتراض.
ومن أمثلة الهذيان الذي قدمه نيقتاس في كتابه تقديمه معنىً كاذباً للآية الخامسة والعشرين من سورة البقرة التي قال الله جل وعلا فيها : ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ).
وهنا لا يُقدِّم نيقتاس معنىً مشوهاً أو محرفاً أو مقلوباً ، وإنما يُقَدِّم الهذيان الذي ما بعده هذيان والهراء الذي ما بعده هراء ، والإسفاف والبذاءة التي تميز بها دحضه فيقول : ” الجاهل البربري إلى أبعد حد يعرف أن المسيحيين واليهود سوف يرفضون كتابه المقدس الخرافي ودينه المتبربر والوعود المزيفة لأتباعه بميراث الجنة مع كل النساء البيض الجميلات ، وإجراء الجماع بهن في حضرة الرب ، والرب غير خجل من هذا الفعل “.
ويعلق نيقتاس على هذا الهراء الذي أورده فيقول : ” هو – يقصد النبي عليه السلام – ينظر للبعث بشروط العالم المادي..”.
وهنا لا نجد سوى الشتائم الهابطة ، حيث يحاول نيقتاس الحط من قيمة النبي صلى الله عليه وسلم فيصفه بالجاهل والبربري ، ووصف دينه بالمتبرر والقرآن الذي أنزله الله عليه بالخرافي. وهي عبارات كررها نيقتاس كثيراً في ثنايا كتابه الداحض. والمعروف أن الله تعالى قدَّر أن يكون نبيه أمياً لا يعرف القراءة والكتابة ، وذلك برهان ساطع على صدقه وصدق مقالته بأنه رسول رب العالمين حتى لا يشك المبطلون في أمره ، قال تعالى : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ). أما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم جاهلاً قبل بعثته ، فإن ذلك الجهل انقطع وزال بعد ان أوحى الله إليه وأنزل عليه الكتاب والحكمة ، وأراهُ من آياته الكبرى مالم يُرِهِ لأحد غيره من البشر ، فأصبح أعلم الخلق بالله وآياته وأنبيائه ومخلوقاته ، وصدر عنه من العلم والأدب الرباني الرفيع ما لم يصدر عن غيره من العالمين.
أما وصف نيقتاس للنبي صلى الله عليه وسلم بالبربري ، فهو يردد بذلك نظرة رومانية استعلائية قديمة ، حيث كان الرومان ينظرون باستعلاء وازدراء لكل العالم المحيط بالأمبراطورية الرومانية ، ويصفون ذلك العالم : بأنه كان عالماً متبربراً متوحشاً ، ويصفون سكان ذلك العالم بالمتبربرين ، علماً أن بعض شعوب ذلك العالم كانوا أعرق من الرومان في ميادين الحضارة والعلوم والثقافة ، مثل شعوب بلاد العرب ، ومصر ، وبلاد ما بين النهرين والهند والصين وغيرها.
أما تعليق نيقتاس على الآية وزعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم ينظر لنعيم وعذاب الآخرة بشروط العالم المادي ، فهو ترديد للزعم الذي بدأه يوحنا الدمشقي ، وردده كُتَّاب الروم بعده مثل : ثيوفانس وغيره.
وقد كرر نيقتاس في كتابه كثيراً ” أن الرب الذي يعبده الهاجريون – ويقصد نيقتاس بالهاجريين المسلمين حيث درج الكتاب الروم على وصف المسلمين بهذا الوصف تحقيراً لهم باعتبارهم أبناء هاجر أمَة سارة زوج إبراهيم عليه السلام – ليس الرب الصادق الذي يعبده المسيحيون “. بزعمه الكذوب.
لقد قدَّم نيقتاس في كتابه المقيت الكثير من الهذيان والمفتريات الباطلة التي لا يتسع المجال لذكرها بالتفصيل ، ، فضلاً عن الفهم السخيف الفج الذي لايمت للحقيقة بصلة ، مثل تعليقه على “خلق الإنسان من علق ” وهي إحدى مراحل خلق الجنين داخل الرحم ، والتي أثبتها علم الأجنة الحديث ، فعلق نيقتاس المفتري ” بأن القرآن يزعم أن الرب خلق الإنسان من علقة وهي تلك الدودة المعروفة التي تعيش في المستنقعات والبرك ، وظل نيقتاس يسخر ويتهكم على هذا الزعم الكذوب في مواضع عديدة من كتابه.
وفي سورة الإخلاص ( قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ ﴿١﴾
اللَّـهُ الصَّمَدُ ﴿٢﴾
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴿٣﴾
وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿٤﴾
وهي السورة المشتملة على توحيد الأسماء والصفات. (هو الله أحد) قد انحصرت فيه الأحدية فهو الأحد المنفرد بالكمال ، الذي له الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا ، والأفعال المقدسة ، الذي لانظير له ولا مثيل. ( الله الصمد ) أي : المقصود في جميع الحوائج فالعالم السفلي والعلوي مفتقرون إليه غاية الافتقار ، يسألونه حوائجهم ، ويرغبون إليه في مهماتهم ، لأنه الكامل في أوصافه ، العليم الذي قد كمل في علمه ، الحليم الذي قد كمُل في حلمه ، الرحيم الذي قد كمل في رحمته ، وهكذا سائر أوصافه. ومن كماله أنه ( أنه لم يلد ولم يولد ) لكمال غناه وعدم احتياجه لولد.
وهذه الآية تنسف عقيدة النصارى من أساسها.
) ولم يكن له كفواً أحد ) لا في أسمائه ، ولا في أوصافه ، ولا في أفعاله جل وعلا.
وقد وقف نيقتاس الباغي عند اسم الله الصمد ، فزعم أن القرآن يصور الله بأنه مكوّن من مادة صلبة جامدة مصمتة دائرية ، حجرية أو معدنية.
ويعلق نيقتاس بأن الهدف من هذا الوصف هو البعد عن مفهوم الابن المنبثق عن الأب.
وبالتالي فإن الرب الذي يعبده محمد صلى الله عليه وسلم هو رب آخر غير الرب الذي يعبده النصارى.
ولقد كان لما كتبه نيقتاس من هراء وطغيان أبلغ الأثر في شعور المجتمع الديني البيزنطي تجاه الإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فحقدوا عليهما حقداً قل نظيره في التاريخ ، لدرجة انعكست على الطقوس التي كانت تُجْرى للمرتدين من المسلمين ، سواء من الاسرى الذين وقعوا بأيدي الروم وقاموا بتنصيرهم طوعاً أو كرهاً ، أو الذين فروا من ديار الإسلام الى بلاد الروم وقرَّروا التنصُّر بمحض إرادتهم. فلم يكتف الكهنة بتعميد المرتد كما جرت العادة عند النصارى ، وتلقينه عقيدة الثالوث الباطلة لينطق بها معلناً إيمانه بها ، بل يتوجب عليه أن يتلفظ بسلسلة طويلة من اللعنات على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعلى زوجاته وبناته وعلى علي بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين رضي الله عنهم جميعاً… ثم تمتد اللعنات البغيضة لتشمل العقائد والشعائر الإسلامية بداية بالقرآن الكريم ، وبما فيها عقيدة القضاء والقدر ، ويختتم المتنصر لعناته بلعن رب محمد صلى الله عليه ” الذي يصفه : بأنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد “.
ثم تطور الأمر إلى كتابة هذا اللعن المقيت لله جل وعلا إلى أن أصبح مكتوباً في بداية كل كتب التعليم الديني للأطفال وغيرهم في التراث الرومي ” البيزنطي “.
ويتضح أن ما كتبه نيقتاس وغيره من كتابات باغية ظالمة ضد الإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، كان لها صداها العميق داخل المجتمع البيزنطي وبخاصة رجال الدين ، فساد بينهم الإعتقاد الكاذب ان محمداً صلى الله عليه وسلم يعبد رباً غير غير الأب الذي يعبده النصارى ضمن عقيدة الثالوث الباطلة – الأب والإبن والروح القدس – فكتبوا ذلك اللعن المقيت في كتبهم الدينية.
والحقيقة التي لا مراء فيها أن ما كتبه نيقتاس وغيره من الكتاب البيزنطيين والأوربيين في العصور الوسطى ، إنما هو الهذر الذي ما بعده هذر ، وهي غير جديرة بالدراسة والوقوف عندها. ولكن ما يجبرنا على دراستها ، أنها حظيت بالدراسات المسهبة من جانب الباحثين الغربيين عبر العصور ، وأسهمت إلى حد بعيد في رسم سياسة الغرب إزاء المسلمين ، وكانت الأساس في صياغة وجهة النظر الغربية تجاه الإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم حتى اليوم. واصبحت هي المصدر والمنبع للكثير من المتعصبين في الغرب مثل : المحافظين الجدد في أمريكا واليمين المتطرف في أوربا ، فاستقوا منها أفكارهم وثقافتهم عن الإسلام ، فظهرت في كتاباتهم المتتالية عن الإسلام مثل : القس تيري جونز ، وجيري فالويل ، وجراهام ، وفاينز ، وسلمان رشدي وغيرهم.
وقد أثار هذا اللعن الباغي الطاغي الامبراطور مانويل كومنين Manuel Komnenos ( الذي حكم من سنة ٥٣٤ حتى سنة ٥٧٣ هجرية / ١١٤٣ – ١١٨٠ م ).
والمعروف أن أباطرة الدولة البيزنطية ، يسيطرون على كنيسة بلادهم الأرثوذكسية ويفرضون عليها أراءهم ومقترحاتهم في كثير من الأحيان.
وكان الامبراطور مانويل كومنين على قدر عالٍ من الثقافة والمعرفة والفهم ، واعتبر هذا اللعن موجهاً بشكل مباشر للأب الذي يعبده الروم وغيرهم من النصارى ( لأنهم يعبدون ثلاثة أقانيم هي : الأب والإبن والروح القدس ).
وقال : بأن محمداً – صلى الله عليه وسلم – يعبد الأب الذي نعبده نحن المسيحيون ، فكيف يجوز لنا أن نلعنه؟؟؟!!!!
ويتضح من رسائل الامبراطور مانويل وحججه التي ساقها أنه فهم حقيقة العقيدة الإسلامية أكثر بكثير من رجال الدين المتعصبين داخل امبراطوريته ، لذلك صنّف رسالتين شرح فيهما نظريته ودافع عنها.
ولذلك اعتزم مانويل شطب هذا اللعن المقيت من الكتب الدينية الرومية ، فاستدعى البطريرك الأكبر للقسطنطينة ثيودوسيوس بوراد يوتيس Theodosios Boradiotes وكبار القادة الدينيين بالمدينة ، وعرض عليهم اقتراحه ، فهزوا رؤسهم جميعاً بالرفض ، معارضين حتى أن يستمعوا لتفاصيل اقتراحه. وأصروا على أن المقصود باللعن ليس الأب خالق السموات والارض ، وإنما المقصود الرب الصمد المُخْتَرَع من جانب موعمت Moamet…الذي يصفه بأنه الصمد الذي لم يلد ولم يولد. وأن الأب الرب الذي يؤمن به المسيحيون هو الوالد الذي انبثق منه المسيح.
وقد ترك الامبراطور مانويل المعارضة لاقتراحه تخمد ، وكتب كتاباً مسهباً يشرح فيه اقتراحه وعزمه على شطب ذلك اللعن المقيت ، وتلقى المساعدة من بعض رجال الدين الذين يعملون في البلاط الامبرطوري ، والذين وصفهم المعترضون بالانتهازيين. وقد أورد مانويل في كتابه نصوصاً إسلامية تؤكد أن الرب الذي يعبده محمد صلى الله عليه وسلم هو خالق الأرض والسماء وخالق كل شيء.
وقد تضمن كتاب مانويل إدانة ضمنية للأباطرة السابقين ، ورجال الهيئة الكهنوتية السابقين الذين غضوا الطرف عن هذا اللعن المقيت ” وتركوا الرب الصادق – الأب – بأن يوضع تحت اللعنة “.
وهذا يثبت ان هذا الامبراطور عرف حقائق الإسلام الصحيحة. وقد قام الامبراطور مانويل بالترويج لكتابه ، ووزعه على المقر البطريركي البيزنطي وبقية الهيئة الكهنوتية ، كما وزعه على مجلس السناتو ومجلس الشيوخ ، والنبلاء العلماء ، فوافق بعضهم على محتويات الكتاب ، وقبول مقترح الامبراطور. ثم كتب الأمبراطور كتاباً ثانياً يدعم فيه اقتراحه ، ويُفصِّل وجهة نظره.
وكان الامبراطور مانويل يعاني في ذلك الحين من مرض عضال ، فانتقل من قصره إلى مكان هادئ على ضفاف البسفور ، بهدف الراحة ، والتفرغ للعناية الكاملة من جانب ألأطباء.
ومن هناك أصدر مانويل أمراً بقدوم الأساقفة وعلماء اللاهوت إلى ذلك المكان لعقد مجمع ديني لمناقشة اقتراحه الذي فصَّله في كتابه الثاني. وأبحر الأساقفة إلى ذلك المكان الذي يقيم فيه الأمبراطور مانويل ، وعندما نزلوا من المراكب استقبلهم أحد المقربين من الأمبراطور ، وأخبرهم انه لن يكون – في مقدورهم في الوقت الحالي – أن يروا الأمبراطور ، لأنه كان مريضاً وحدث له تدهور في صحته ، وأمرهم ان يقرأوا الوثائق والحجج التي وضعها بين ايديهم في كتابه الثاني.
ويبدو أن الأمبراطور امتنع عن مقابلتهم في ذلك الوقت بهدف الضغط عليهم ، وأن يوافقوا على مقترحه بدون مناقشة.
ولزيادة الضغط عليهم اخبرهم ، على لسان مندوبه ، أنه قد يتشاور مع البابا في روما حول اقتراحه!!!
وكان هذا التهديد كفيل بإثارة الرعب والفزع في نفوسهم ، لأنه من المعروف أن العلاقات بين بابوية روما الكاثوليكية وكنيسة القسطنطينية الأرثوذكسية ظلت تتدهور عبر القرون حتى وصلت إلى مرحلة ما يسمى ب ” الانشقاق الديني العظيم ” بين الجانبين سنة ٤٤٦ هجرية الموافق ١٠٥٤م. وأصبحت الكنيسة الأرثوذكسية في الدولة البيزنطية لا تقبل ان تتدخل بابوية روما في أمورها الدينية.
وقد أثار هذا التهديد رئيس اساقفة ثيسالونيكي Thessaloiki يوستاثيوس Eustathios فامتلأ صدره بالغضب والسخط ، وعبّر عن حقده الدفين إزاء دين الإسلام بعبارات نابية قل نظيرها في التاريخ ، فوصف رب محمد صلى الله عليه وسلم بأنه لايمت بصلة لرب المسيحيين الذي هو خالق الأرض والسماء وخالق كل شيء ، وبغى وطغى بوصف الله جل وعلا بإنه إله لوطي. وانه أستاذ ومعلم لكل شيء بغيض ، وكان هذا الباغي يصرخ بكلماته لدرجة ان بقية الأساقفة ، صُعِقوا بكلماته وأصيبوا بالخرس ، فلم يعقب أحد منهم بشيء على أقواله.
وقد صُعِقَ قارئ وثيقة الامبراطور من هذا الكلام المقيت وعاد إلى الامبراطور ، وأخبره بما حدث ، وقد تألم مانويل من ذلك الكلام السافل ، ولكنه تذرع بالصبر ، وظل يدافع عن اقتراحه ببراعة ، وأعتبر نفسه من نخبة مستقيمي العقيدة بين جميع المسيحيين ، وأعتبر ما قاله رئيس اساقفة سالونيكي تشويه للإيمان الصحيح ، وانه ينبغي أن تُفْرَض عليه عقوبة عادلة.
وظل الامبراطور متمسكاً بعقيدته التي قدَّمها في كتابيه : وهي أن الله رب السموات والأرض خالق كل شيء ، هو نفسه ألذي يوصف في الإسلام بأنه الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، وهو نفسه الرب الذي يعبده النصارى ويصفونه بإلأب ، ولذلك يجب شطب ذلك اللعن المقيت المكتوب في الكتب والمخطوطات الدينية البيزنطية ، ومعاقبة كل من يشتم الرب الصمد ، لأن ذلك تجديف وسب للإله الحق.
أما أسقف ثيسالونيكي ومن كان على شاكلته ، فكانوا يعتقدون أن الرب الذي يعبدونه هو الرب الحق ، بينما يعبد المسلمون رباً آخر ليس هو – بزعمهم الباطل – الذي خلق الارض والسماء وخلق كل شيء. ولا يجدون حرجاً في شتمه بأقذر الشتائم.
وقد ذهب بطريرك القسطنطينية لمقابلة الإمبراطور ، وابدى ليونة في مخاطبته ، واعتذر له عما بدر من رئيس اساقفة ثيسالونيكي ، ووافق الامبراطور على اعتذار البطريرك ، وحمَّله رسالة لذلك الباغي ، يأمره فيها بأن يكون مُتَبصِّراً في عواقب الأمور ، وأن ينبذ بذاءة اللسان ، وأن لايعود إلى استخدام عبارات وقحة على نحو متطرف.
واخيراً وبعد ان استمع الاساقفة من البطريرك لنص كتاب الإمبراطور الذي يتضمن شطب ذلك اللعن المقيت وافقوا على مضمون الاقتراح ، فجاء أمر الامبراطور لهم بالانصراف على أن يجتمعوا في مقر البطريركية في القسطنطينية ليكتبوا القرار الذي يرضي الإمبرطور.
وفي اليوم التالي اجتمع الأساقفة في المقر البطريركي للتوقيع على نص الاتفاق ، وقد جاء الموظفون الأمبراطوريون إلى المقر منذ وقت الفجر مما يدل على حرص الامبراطور على توقيع الاتفاق.
وما أن انعقد المجمع وقُرِئ نص القرار الذي صاغه الإمبرطور حتى هز الأساقفة رؤوسهم بالرفض مجادلين أن النص مايزال مشتملاً على الكلمات المستحقة للشجب ، ويجب أن تُسْتَبَدْل بكلمات أخرى لا تُعْطي إساءة للعقيدة المسيحية الصحيحة.
وقد اغتاظ الأمبراطور من هذا الموقف للأساقفة ، وحمل بشدة على تقلُّبهم وتلوّنهم ، واتهمهم بأنهم مجردين من كل عقل.
وبعد تأخير وجدل طويل وافق الاساقفة بالكاد على ان يزيلوا اللعنة لرب Moamet موعمت ( محمد صلى الله عليه وسلم ) من الكتب الخاصة بالتعليم بطريقة السؤال والجواب ، ويكتبونها في لعن موعمت ( محمد صلى الله عليه وسلم ) وجميع تعاليمه. وأكدوا وأعلنوا موافقتهم على هذه العقيدة المقيته. ووصلت تلك الاجتماعات والمجامع الدينية نهايتها.
وهكذا نجح أُولئك الأساقفة المتعصبون في تحقيق هدفهم الحقود في إبقاء ذلك اللعن المقيت في كل كتب التعليم الديني داخل الدولة البيزنطية ، وخدعوا الإمبراطور مانويل كومنين بنقل ذلك اللعن المقيت لرب النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، إلى لعنه هو وجميع تعاليمه!!!
ومن أعظم وأسمى تعاليمه التي بُعِثَ بها : أن الله الصمد الذي لم يلد ولم يولد. وبذلك أبقوا ضمناً ذلك اللعن الباغي الظالم. ولم يفطن الإمبراطور مانويل لهذا الخداع ، خاصة وقد اشتد به المرض وبلغ نهايته المحتومة.
هذه المقالة ملخصة من مسودة كتابي ( العدوان الفكري الرومي ” البيزنطي ” على الإسلام ) أسأل الله أن ييسر طباعته قريباً.