مضى على معركة حطين 855سنة:
اجتمعت الجيوش عند صلاح الدين في دمشق واستعرضها خارج دمشق وكان يبلغ عددها أكثر من
اثني عشر ألف فارس وأكثر من عشرين ألف رجل من
المشاة ثم استشار أصحابه في الطريقة التي ينبغي له
اتباعها في مواجهة الصليبين فمنهم من قال أن يغير على ممتلكات الصليبين ويدمر مايمكن تدميره ويستولي على
مايمكن الإستيلاء عليه من قرى وقلاع وحصون ومنهم من قال أن يدخل معهم في مواجهة حاسمة. وهذا الرأي هو الذي اختاره صلاح الدين وهو أن يستدرجهم إلى معركة تكون نتائجها بعيدة المدى عليهم عند ذلك نزل من دمشق عبر هضبة الجولان وهي منطقة مرتفعة عن الأردن ونزل إلى وادي الأردن بغية استدراج الصليبين إلى معركة حاسمة ومن هنا أرسل فرقة عسكرية انتخبها من خيرة الجنود والقادة فتوغلوا في داخل مملكة بيت المقدس الصليبية وأغارت على منطقة صفورية وهي منطقة خصبة وتقع في منتصف الطريق تقريبا بين عكا وبين بحيرة طبرية فأغارت على الصلييين في تلك المنطقة ووجدت بعض الجيوش الصليبية وهزمتهم وجاءت نجدة لإنقاذ مايمكن إنقاذه فتصدت الحملة الإسلامية لتلك النجدة الصليبية وأخذت أفرادها مابين قتيل وأسير فعاد المسلمون من تلك الغزوة منتصرين.
تحرك صلاح الدين إلى طبرية:
عبر صلاح الدين نهر الأردن ووصل إلى غرب بحيرة طبرية وجعل ظهره وظهر جيشه إلى البحيرة وحتى يستدرج الصليبين لابد من القيام بعمل يجعلهم يغضبون ويأتون إليه فهاجم مدينة طبرية الخاضعة لزوجة ريموند الثالث أمير طرابلس وتسمى أشيفا وهذه المرأة كان معها أولادها فحاصر صلاح الدين المدينةفاحتمت امرأة ريموند الثالث بالقلعة مع أولادها ولما وصلت الأنباء إلى الصليبين أن صلاح الدين
اقتحم طبرية واستولى عليها وحاصر القلعة جن جنونهم وتشاورا واعتبروا ذلك إهانة كبيرة وأنه لابد من التصدي لصلاح الدين فعقد الملك جاي لوز جنان مجلساً حربياً من كبار القادة والأمراء وتشاورا في الخطة التي ينبغي أتباعها وعند ذلك أشار ريموند الثالث وهو صاحب طبرية وزوجته صاحبتها أشار عليهم أن يبقوا في صفورية وقال طبرية لي ولزوجتي وإذا ذهبنا إلى هناك فإن صلاح الدين يريد أن يستدرجنا وسوف يستهلك منا السير إلى طبرية وقتاً كبيراً فنصل نحن وجيوشنا في غاية التعب وذلك يمكن صلاح الدين من الإنتصار علينا فأشار عليهم بالبقاء في صفورية وقال إن صلاح الدين لن يستطيع البقاء طويلاً في طبرية وسوف يعود ونستردها وعند ذلك اتهمه ارناط وجيرار مقدم الداوية بالخيانة وحثا الملك جاي لوز جنان على عدم إطاعة مشورته وعلى أن يذهب الجيش الصليبي للتصدي لصلاح الدين وحماية طبرية وعند ذلك أمر الملك جاي لوز جنان سائر القوات الصليبية بالإرتحال من صفورية إلى طبرية والمسافة بينهما كانت ثمانية عشر ميلاً وكانت المنطقة الفاصلة بينهما منطقة تلال جرداء وكان الوقت وقت الصيف ولا يوجد في المنطقة بين صفورية وطبرية مياه وكان صلاح الدين قد استقر في غرب بحيرة طبرية حيث يوجد سهل عرف بسهل حطين وتوجد غرب السهل هضبة مرتفعة قليلاً تسمى هضبة حطين يعلوها قمتان سماها المؤرخون والجغرافيون العرب قرون حطين وعند ذلك سار الجيش الصليبي وعلم صلاح الدين عبر استخباراته أن الصليبين قادمون إليه وعند ذلك أرسل الفرسان الخفيفة الحركة ونصبت الكمائن للصليبين ووضعت أمامهم صعوبات جمة من ضمنها رمي المثلثات وهي عبارة عن أشواك من حديد لها خمسة رؤوس أو ستة رؤوس فإذا وطئت عليها الخيول دخلت في حوافرها وبالتالي ما أن تتقدم حتى تصبح عاجزة عن الحركة وبهذه الوسيلة كان لها أثر كبير في تعطيل كثير من خيول الصليبين.
وصول الصليبين إلى حطين :
وصل الصليبيون إلى حطين وهم في غاية العطش والتعب وصلوا يوم الخميس 21 ربيع الآخر عام 583هـ الموافق 2 يوليو عام 1187م ولما رآهم صلاح الدين علم أنه قد استدرجهم إلى المكان المناسب والزمان المناسب فقال :” جاءنا مانريد ونحن أولو بأس شديد”
وبعد أن وصلوا إلى هضبة حطين وهم في غاية العطش وكلما حاولوا الوصول إلى بحيرة طبرية منعهم المسلمون فاضطروا أن يعسكروا فوق هضبة حطين وكان ريموند الثالث يعرف بئراً قديما في هضبة حطين فجاء إليها لعلهم يستقون منها فوجدها جافة وكان ذلك وقت الصيف ، فصرخ قائلاً : ضاعت المملكة
أما صلاح الدين فلم يواجه الصليبين في يوم الجمعة التالي لوصولهم ولكن كانت مواجهة من بعيد يرمي عليهم بالنبال ليزيدهم تعباً على تعبهم وظل يناوشهم طوال يوم الجمعة التالي حتى يوقع بهم أكبر قدر ممكن من العطش وبعد اكتمال الجيش الصليبي قام صلاح الدين في الليل وأحاط بالجيش الصليبي وطوقه بالكامل لدرجة أنه قال في ذلك المؤرخون الصليييون أنه بعد عمل هذه الشبكة لا يستطيع قط أن يخرج من هذه الشبكة المنصوبة وقام بعض المطوعين بإشعال النيران في الحشائش اليابسة على هضبة حطين والرياح تأخذ الدخان والنار إلى المكان الذي يعكسر فيه الجيش الصليبي.
فاجتمع عليهم حر الزمان وحر النار وحر الدخان وحر القتال
ولما أصبح اليوم التالي يوم السبت 23ربيع الآخر عام 583هـ نشبت المعركة الحامية الوطيس بعد أن اعد صلاح الدين جيشه معنوياً طوال الليل حيث كان يدور على الكتائب والفرق يحثهم على الصبر وعلى الذكر وتلاوة القرآن ويذكرهم بأنهم أمام إحدى الحسنيين إما النصر أو الشهادة وطلب منهم الثبات ولما نشبت المعركة أيقن ريموند الثالث أنهم وقعوا في الفخ وأن الجيش الصليبي بأكمله مصيره الإبادة أو الأسر ولذلك قام بهجوم للخروج من تلك الشبكة ومعه مئات من فرسانه أراد النجاة بنفسه فلما علم صلاح الدين بتلك الحركة أمر ابن أخيه تقي الدين قائد الميمنة بأن يسمح لريموند
بالفرار ففتح فتحه في الصف وخرج منها ريموند الثالث وفر هارباً إلى طرابلس ثم التأم الصف مرة ثانية بعد خروجه ودارت معركة حامية الوطيس شن المسلمون فيها هجمات شديدة على الصليبين وقتلوا منهم عدداً كبيراً وقام الصليبيون رغم ما أصابهم من عطش بهجمات مضادة وأحيانا كانوا ينجحون في رد الهجمات الإسلامية وكان معهم صليب الصلبوت وهو من الخشب وكان صلاح الدين يحرض دائماً على اسقاط هذا الصليب وأسقطه المسلمون وحلت الهزيمة الساحقة بالجيش الصليبي الذي كان يزيد عن خمسين ألف مقاتل وقعوا جميعاً بين قتيل وأسير ودخل المسلمون إلى خيمة الملك جاي لوز جنان وعند ذلك علم المسلمون أنهم انتصروا انتصاراً حاسماً ونزل صلاح الدين من فوق ظهر فرسه وسجد لله تعالى واغرورقت عيناه بالدموع وصليب الصلبوت هو الخشبة التي يزعم النصارى أن المسيح صلب عليه.
ووقوع الجيش الصليبي بأكمله بين قتيل وأسير :
وهكذت لم ينج أحد من ذلك الجيش الصليبي الذي يعتبر أكبر جيش حشدته مملكة بيت المقدس منذ نشأتها ، حيث وقع جميع أفراد الجيش لتلك المملكة بين أسير وقتيل ويدلل المؤرخون على فداحة الخسائر البشرية التي تكبدها الصليبيون بقولهم: إن من شاهد القتلى ظن أنه لم يكن هناك أسرى ومن شاهد الأسرى ظن أنه لم يكن هناك قتلى، ويؤكد ابن الأثير أنه مر بمكان المعركة بعد نحو سنة من وقوعها فوجد الأرض ملآى من عظامهم بحيث يمكن رؤيتها عن بعد منها المجتمع بعضه على بعض ومنها المفترق ، فضلاً عما جرفته السيول وأخذته السباع في تلك الأكام والوهاد.
نصب صلاح الدين خيمته وجيء بالأسرى وهم الملك جاي لوزجنان وارناط وجيرار مقدم الداوية وكانوا عند ذلك في غاية العطش فأمر صلاح الدين باعطاء الملك جاي لوز جنان الماء البارد المثلج فشرب منه جاي لوز جنان واعطى البقية إلى ارناط وخاطبه صلاح الدين عن طريق المترجم وقال له أنه هو الذي أعطي له الماءوليس صلاح الدين حتى ينال أمانه وخاطب ارناط وذكَّره بغدره وتهكمه على النبي صلى الله عليه وسلم وتجاوزه على الأماكن المقدسة فقال ارناط هذه هي عادة الملوك والأمراء واستل صلاح الدين سيفه وقال هاأنا ذا انتصر لدين محمد وضرب ارناط على رقبته فأزال رأسه وفاء بقسمه الذي أقسمه من قبل فارتعد الملك جاي خوفاً فطمأنه صلاح الدين على حياته وأخبره أنه لم تجر عادة الملوك بقتل الملوك وأن مافعله بأرناط إنما هو جزاء أفعاله الدنيئة. وتعتبر معركة حطين من أهم المعارك في عصر الحروب الصليبية ذلك أنها قضت على جيش مملكة بيت المقدس وفتحت الطريق أمام صلاح الدين على مصراعيه لاسترداد سائر البلاد التي اغتصبها الصليبيون من المسلمين بحيث استطاع صلاح الدين أن يسترد أكثر من ثمانين مدينة وقرية وقلعة وحصن مع ما يتبعها من بلاد كانت بيد الصليبين في أقل من ثلاثة أشهر وهي مساحة تعادل مساحة فلسطين التي تحتلها اسرائيل
حالياً عدة مرات ولولا أن الحملة الصليبية الثالثة التي نهضت فيها أوروبا بأجمعها وجاءت بحملات لا حصر لها لولا أن تلك الحملات جاءت لاستطاع صلاح الدين خلال فترة قليلة القضاء على الوجود الصليبي في بلاد الشام بأكمله ولم يبق في أيدي الصليبين إلا مدن انطاكية وطرابلس وصور.
كتبه .أ.د/علي بن محمد عودة الغامدي
شكرا لك شيخنا الفاضل على ماتقدمه
اللهم انصر الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها