لم تتوقف جموع الصليبيين عن التدفق على بلاد الشام .
ففي سنة 607هـ / 1210م تحركوا جهة ساحل الشام واحتشدت بعكا أعداد كبيرة منهم، وشرعوا في شن الغارات على بلاد المسلمين في فلسطين، فخرج المعظم بن العادل صاحب دمشق للتصدي لهم .
ولقد اثارت غارات الصليبيين المتكررة حفيظة جمهور المسلمين في عاصمة بلاد الشام دمشق، إذ أدت كما يذكر المؤرخ المعاصر سبط ابن الجوزي إلى قيام حركة جهاد شعبية انطلقت من دمشق للثأر من الصليبيين، فاجتمع عشرات الألوف من سكان دمشق في الجامع الأموي للإستماع إلى موعظة المؤرخ سبط ابن الجوزي التي ألقاها عن فضائل الجهاد، وبلغت الحماسة بالمسلمين حدا جعل الكثير من نسائهم يقدمن على قص شعورهن لجعلها شكالات حبال لخيول المجاهدين ويقول سبط ابن الجوزي عن تلك الشعور :
ولما صعدت المنبر أمرت بإحضارها فحملت على أعناق الرجال وكانت ثلاثمائة شكال، فلما رآها الناس صاحوا صيحة عظيمة وقطعوا مثلها وقامت القيامة .
وخرج سبط ابن الجوزي من دمشق واحتشد المطوعون من سكان دمشق في أثره ووصلت الحماسة بين صفوف سكان دمشق ذروتها حتى أن قرية واحدة من قراها تسمى زملكا في دوما التي ارتكب فيها بشار مذابح شنيعة ضد سكانها انخرط جميع سكانها في صفوف الخارجين للجهاد وذكر ابن الجوزي أن عدد من خرج منها ثلاثمائة رجل بالعدد والسلاح وخرجت تلك الجموع من دمشق احتسابا للجهاد في سبيل الله، ووصلوا إلى عقبة فيق والطير لا يطير خوف الفرنج وساروا حتى وصلوا إلى نابلس فاستقبلهم المعظم عيسى بن العادل، واجتمع بهم في جامع نابلس وأحضروا الشعور بين يديه فأخذها وجعلها على صدره ووجهه وجعل يبكي وكان ذلك يوما عظيما .
وعندما وصلت أخبار تلك الجموع إلى الصليبيين في عكا وغيرها من المعاقل تحصنوا داخل أسوارهم وقلاعهم ولم يتجاسروا على الخروج فأغار المسلمون على بلادهم فقتلوا وأسروا من ظفروا به منهم .
ثم سار المسلمون في صحبة المعظم إلى الطور قرب عكا وهو غير طور سيناء حيث استقر رأيه على بناء قلعة على الطور .
ولقد نجم عن هذه الحركة الشعبية أن اشتد الخوف بالصليبيين فراسلوا السلطان العادل يطلبون الصلح فأجابهم إليه .
ويمكن أن نستنتج من هذه الحادثة التي أوردها ابن سبط الجوزي الحقائق التالية :
أولا : شعور عامة المسلمين في بلاد الشام بوجوب إقامة فريضة الجهاد التي تصبح فرض عين على كل مسلم قادر وبخاصة وأن العدوان مستمر على بلاد المسلمين من جانب الصليبيين .
ثانيا : رفض المسلمين في بلاد الشام لحالة الجمود التي خيمت على سياسة الحكام المسلمين بعد وفاة صلاح الدين ، حيث توقف زخم حركة الجهاد لتحرير البلاد المغتصبة من ايدي الصليبيين وهي السياسة التي بدأها صلاح الدين وقطع فيها شوطا بعيدا .
ثالثا : استعداد جميع المسلمين في بلاد الشام لتقديم التضحيات وحشد الطاقات وتقديم الغالي والنفيس في سبيل استرداد الحقوق وتصفية الوجود الصليبي الدخيل من بلاد الشام .
رابعا : أظهر المسلمون في دمشق بهذه الحركة رفضهم لسياسة المهادنة التي يلجأ إليها ملوك الشام بعد كل اشتباك مع الصليبيين .
خامسا : عظمة نساء الشام في هذه الحقبة لدرجة أنهن قطعن شعورهن لتكون شكالات لخيول المجاهدين والمعروف أن المرأة تعتبر شعرها قمة زينتها وجمالها وهذا يدل على تضحياتهن العظيمة