بسبب انشغاله الطويل بجهاد الصليبيين والروم والباطنيين والخونة وفلول العبيديين وغيرهم ، الذي دام نحو ربع قرن من الزمان. وبعد انتصاره الساحق في حطين سنة ٥٨٣ هجرية تمكن صلاح الدين في خلال أشهر قليلة من تحرير بيت المقدس ومعظم ساحل الشام ومدنه ، ولم يبق بيد الصليبيين سوى أنطاكية وطرابلس وصور. ولكن ردة فعل الغرب الصليبي على معركة حطين وضياع بيت المقدس من أيديهم كانت عنيفة جداً ، بل هي أشبه بطوفان ، حتى أن المؤرخ ستيفن رنسيمان جعل عنوان الفصل الذي أفرده للحديث عن الحملة الصليبية الثالثة بعنوان ( يقظة ضمير الغرب ) بمعنى أن الغرب قد ندم غاية الندم بعدم إرسال المحاربين إلى الشام قبيل معركة حطين لدعم مملكة بيت المقدس الصليبية وبقية الصليبيين في الشام. ولذلك فقد جهز الغرب الصليبي حملات هائلة ، لم يمر مثل عددها في كل تاريخ الحروب الصليبية ، وهي الحملة الصليبية المعروفة بالثالثة واشترك فيها أشهر وأقوى ملوك أوربا بكامل جيوشهم وعلى رأسهم : فردريك بربروسَّا – إمبراطور المانيا وغيرها من البلدان التي كانت تُسمى الإمبراطورية الرومانية المقدسة – وملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد. وملك فرنسا فيليب أغسطس . بالإضافة إلى أعداد كبيرة من الأمراء والمحاربين والفرسان من بقية أرجاء أوروبا. وتٌجْمِع المصادر والوثائق الغربية على أن الذين قرروا الاشتراك في تلك الحملات ، يزيدون عن مليون مقاتل. والأعداد التي وصلت فعلاً إلى بلاد المسلمين تصل إلى مئات الألوف. وهي أعداد هائلة تزيد عما يمكن ان يحشده صلاح الدين بأكثر من عشرة أضعاف. وكان لا يستطيع أن يحشد سوى نحو أربعين ألف في أحسن الظروف . فلم يكن يملك إلا مصر والشام وبعض المناطق في الجزيرة الفراتية. وبقية أرجاء العالم الإسلامي خارجة عن سيطرته. فالدولة الخوارزمية كانت تمتد من شرق العراق إلى حدود الصين ، ولم تقدم له أية مساعدة البتة. ودولة الموحدين في المغرب والأندلس ، لم تساعده ولم تنجده رغم استنجاده بملكها. وآسيا الصغرى خاضعة لسلطان سلاجقة الروم قلج أرسلان الثاني ، ولم يساعد صلاح الدين بشيء ، بل كان متحالفاً مع فردريك بربروسا. وظل صلاح الدين يواجه تلك الحشود الهائلة التي ظلت تتدفق على بلاد الشام براً وبحرا ، من سنة ٥٨٤ هجرية حتى سنة ٥٨٨ هجرية، وتكبد خلالها خسائر فادحة ، كما كبَّد الصليبين خسائر فادحة أيضاً. إلا أن الإمدادات المتواصلة من الغرب كانت تعوض خسائر الصليبيين ، وقد ضرب لنا مؤرخ صلاح الدين وقاضيه بهاء الدين ابن شداد مثلاً على تلك الإمدادات أثناء مرابطة الجانبين في مواجهة بعضهما البعض عند عكا فقال : عددت في أحد الأيام عدد السفن التي كانت تصل للفرنج من بعد العصر إلى المغرب فكانت سبعين سفينة. وصرف صلاح الدين كل ما يملك في مواجهة تلك الحشود الضخمة ، لدرجة أنه في أواخر تلك الحملة لم يعد قادراً على دفع رواتب قادته وأجناده. وبعد مفاوضات طويلة مع ريتشارد قلب الأسد – الذي اصبح القائد العام لجيوش الصليبيين في بلاد الشام بعد مقتل ملك المانيا وعودة ملك فرنسا إلى بلاده. تمكن صلاح الدين سنة ٥٨٨ هجرية من توقيع صلح الرملة مع ريتشارد قلب الأسد ( وهو عبارة عن هدنة مؤقته مدتها ثلاث سنوات وثلاثة أشهر فقط ).وظل محتفظاً ببيت المقدس ، ولم يفرط فيه. وهذا يُدحض مزاعم يوسف زيدان وغيره من كارهي صلاح الدين ، الذين زعموا – زورا وبهتاناً – أن صلاح الدين عقد مع الصليبيين صلحاً دائماً. وبعد توقيع الهدنة سنة ٥٨٨ هجرية تعلقت نفس صلاح الدين بالحج ، وقرر أن يحج في ذلك العام ، لكنه اصبح معدماً ، بل تحت خط الفقر ، فنصحه اخوه العادل وقضاته وكبار مستشاريه بتأجيل الحج إلى العام القادم ، لأنه لم يعد يملك ما يتجهز به للحج ويوزعه على فقراء الحرمين الشريفين ، إضافة إلى أن ريتشارد قلب الأسد لم يكن قد غادر الشام عائداً إلى بلاده ، وقد يستغل فترة غياب صلاح الدين في الحج فيغدر وينقض على بيت المقدس. لذلك أجل صلاح الدين الحج إلى العام القادم. وودع الحجاج الذاهبين إلى مكة في شهر ذي القعدة سنة ٥٨٨ هجرية واستقبلهم في عند عودتهم في شهر صفر سنة ٥٨٩ هجرية. وداهمه المرض بعد استقباله للحجاج وتوفي في آخر شهر صفر وعمره ٥٦ سنة. ولم يجدوا في خزانته الخاصة ما يشترون به له كفناً وحنوطاً ، واقترضوا لذلك. ولما حانت ساعة دفنه في دمشق ، أشار القاضي الفاضل بأن يُدُفَن معه سيفه ، لعله يتوكأ عليه إلى الجنة. فلا نامت أعين يوسف زيدان وكل الجبناء من كارهي صلاح الدين.
كتبه. أ . د / علي بن محمد عودة الغامدي.