الموقع الرسمي للدكتور علي بن محمد عودة الغامدي
قصة في الاخلاص لله رواها ابن الجوزي في المنتظم

قصة عجيبة في الإخلاص لله جلّ وعلا

قال ابن المبارك رحمه الله :

قدمت مكة فإذا الناس قد قحطوا من المطر وهم يستسقون في المسجد الحرام ، وكنت في الناس مما يلي باب بني شيبة ، إذ أقبل غلام أسود عليه قطعتا خيش ، قد ائتزر بإحداهما و، وألقى الأخرى على عاتقه ، فصار في موضع خَفِيٍّ إلى جانبي ، فسمعته
يقول: إلهي أَخْلَقَتِ الوجوهَ كثرةُ الذنوبِ ومساوىءُ الأعمال ِ، وقد منعَْتنا غيثَ السماء لتؤدّب الخليقة بذلك ، فأسألك يا حليمًا ذا أناة ، يا من لا يعرف عبادُه منه إلا الجميل ، اسقهم الساعة الساعة .
قال ابن المبارك : فلم يزل يقول الساعة الساعة حتى استوت بالغمام ، وأقبل المطر من كل مكان ، وجلس مكانه يُسبّح ، وأخذت أبكي ، فلما قام تبعته حتى عرفت موضعه .فجئت إلى فضيل بن عياض
فقال لي : مالي أراك كئيبًا؟
فقلت: سبَقنا إلى الله غيرنا فتولاه دوننا !
قال: وما ذاك ؟ فقصصت عليه القصة فصاح وسقط.
وقال: ويحك يا ابن المبارك خذني إليه .
قلت: قد ضاق الوقت وسأبحث عن شأنه فلما كان من الغد صليت الغداة وخرجت إلى الموضع فإذا شيخ على الباب قد بُسط له وهو جالس ، فلما رآني عرفني .
وقال: مرحبًا بك يا أبا عبد الرحمن، حاجتك. فقلت له: احتجت إلى غلام أسود .
فقال: نعم عندي عدة فاختر أيهم شئت؟ فصاح يا غلام ، فخرج غلام جلد .
فقال : هذا محمود العاقبة أرضاه لك .
فقلت: ليس هذا حاجتي فما زال يُخرِج إليَّ واحدًا واحدًا حتى أَخرَجَ إليَّ الغلام ، فلما أبصرت به بدرت عيناي .
فقال : هذا هو؟
قلت : نعم .
فقال ليس إلى بيعه سبيل .
قلت: ولِمَ؟
قال: قد تبرّكت لموضعه في هذه الدار وذاك أنه لا يزرؤني شيئًا .
قلت: ومن أين طعامه؟
قال: يكسب من قبل الشريط نصف دانق أو أقل أو أكثر فهو قوته ، فإن باعه في يومه وإلا طوى ذلك اليوم. وأخبرني الغلمان عنه أنه لا ينام هذا الليل الطويل ، ولا يختلط بأحد منهم مشغول بنفسه، وقد أحبه قلبي .
فقلت له : أنصرفُ إلى سفيان الثوري ، وإلى فضيل بن عياض بغير قضاء حاجة؟
فقال: إن ممشاك عندي كبير خُذه بما شئت.
قال: فاشتريته وأخذت نحو دار فضيل، فمشيت ساعة .
فقال لي: يا مولاي ؟
قلت: لبيك
قال: لا تقل لي لبيك فإن العبد أولى أن يلبي المولى !
قلت: حاجتك يا حبيبي ؟
قال: أنا ضعيف البدن لا أطيق الخدمة وقد كان لك في غيري سعة ، قد أخرج إليك من هو أجلد مني .
فقلت : لا يراني الله وأنا أستخدمك ، ولكني أشتري لك منزلاً وأزوجك وأخدمك أنا بنفسي !
قال: فبكى .
فقلت: ما يبكيك؟
قال: أنت لم تفعل فيَّ هذا إلا وقد رأيت بعض متصلاتي بالله تعالى وإلا فِلمَ اخترتني من بين الغلمان؟
فقلت له : ليس بك حاجة إلى هذا !
فقال لي : سألتك بالله إلا أخبرتني ،
فقلت: بإجابة دعوتك .
فقال لي : إني أحسبك إن شاء الله رجلاً صالحًا ، إن لله – عزَّ وجلَّ – خيرة من خلقه لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من عباده ولا يظهر عليهم إلا من ارتضى .
ثم قال لي : ترى أن تقف علي قليلا ً، فإنه قد بقيت علي ركعات من البارحة.
قلت: هذا منزل فضيل قريب.
قال: لا. ها هنا أحب إليَّ أمر الله – عزَّ وجلَّ – لا يؤخر فدخل من باب الباحة إلى المسجد فما زال يصلي حتى إذا أتى على ما أراد التفت إليّ .
فقال : يا أبا عبد الرحمن،هل من حاجة؟
قلت: ولِمَ ؟
قال: لأني أريد الانصراف !
قلت: إلى أين؟
قال: إلى الآخرة !!
قلت: لا تفعل، دعني أُسَرُّ بك .
فقال لي : إنما كانت تطيب الحياة ، حيث كانت المعاملة بيني وبينه تعالى فأما إذا اطلعت عليها أنت فسيطلع عليها غيرك فلا حاجة لي في ذلك ، ثم خرَّ لوجهه .
فجعل يقول : إلهي اقبضني إليك الساعة الساعة .
فدنوت منه فإذا هو قد مات. فوالله ما ذكرته قط إلا طال حزني وصغرت الدنيا في عيني.

شاركـنـا !

أترك تعليق
صوت التطور لخدمات الويب
%d